سورة الأنفال - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنفال)


        


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48)}.
التفسير:
شهد المسلمون في موقعة بدر أمداد السّماء تتنزل عليهم، وتضع بين أيديهم هذا النصر المبين، الذي كان مفتتح انتصاراتهم التي ستجىء بعد هذا، فيما يدور بينهم وبين المشركين والكافرين من قتال.
ولئلا يغلب على المسلمين هذا الشعور الذي استولى عليهم يوم بدر، من عون اللّه لهم، وإمدادهم بالملائكة تقاتل معهم- لئلا يغلب هذا الشعور عليهم، ويسلمهم إلى التواكل والثقة بضمان النصر من غير إعداد وجهاد وبلاء، فقد أراهم اللّه في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أراهم الطريق الذي يأخذونه لتحقيق النصر الذي ينشدونه، ورسم لهم الدستور الذي يستقيمون عليه ليكون لهم الغلب الذي يرجونه.
فالثبات للعدوّ، والتصميم على لقائه في عزم وإصرار، دون أن يقع في النفس أي هاجس يهجس بها للفرار، أو التراجع، أو أخذ الجانب اللّين من مواقف القتال- هو السلاح العامل بمالا تعمله كثيرة العدد والعدد، لكسب المعركة، وتحقيق النصر.
ولن يكون ذلك الموقف متاحا للإنسان وهو يواجه وجوه الموت، إلا إذا شدّ عزمه بالإيمان باللّه، وملأ قلبه يقينا بالجزاء الذي أعدّه اللّه له، ومن هنا كان ذكر اللّه، والإكثار من ذكره في هذا الموطن، هو الزاد الذي يتزوّد به المجاهد، للصبر على الشدائد، والثبات في وجه الموت الذي يراه رأى العين، فيما يقع بين يديه من جئت وأشلاء.
فذكر اللّه سبحانه وتعالى، في هذا الموطن الذي تصرخ فيه في كيان الإنسان دواعى الحرص على الحياة، وطلب السلامة، وحب البقاء- هو الذي يمسك الإنسان على البلاء، ويسوّغ له طعم الموت، والاستشهاد في سبيل اللّه، ابتغاء الفوز برضاه، ولقائه- جلّ شأنه- على الوعد الذي وعد به المجاهدين في سبيله! ومن أجل هذا كان الفرسان والأبطال، يصحبون معهم من يؤثرون بالحبّ، من زوجات وخليلات، ليكون في صحبتهم لهم تذكير حىّ بالموقف الذي يجب أن يأخذوه في ميدان القتال، حتى يكونوا موضع إعجاب وتقدير، عند من يحبونهم ويفعلون الشيء الكثير الذي يرضيهم، وينزلهم من قلوبهم منزل الإعزاز والإكبار.. فإذا لم يكن في صحبة البطل زوجه أو خليلته، استحضر صورتها في خياله، وتمثل شخصها حاضرا معه، يشهد بلاءه واستبساله.. يقول عنترة لمحبوبته.. عبلة:
ولقد ذكرتك والرّماح كأنها *** أشطان بئر في لبات الأدهم
ما زلت أرميهم بثغرة نحره *** ولباته حتى تسربل بالدّم
ويقول أيضا:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل *** منّى وبيض الهند تقطر من دم
فوددت تقبيل السيوف لأنّها *** لمعت كبارق ثغرك المتبسم
ويقول الحارث بن حلزّة أحد أصحاب المعلقات:
على آثارنا بيض كرام *** نحاذر أن تفارق أو تهونا
يقتن جيادنا ويقلن لستم *** بعولتنا إذا لم تمنعونا
فكيف إذ ذكر المؤمن ربّه، واستحضر جلاله، وعظمته، في هذا الموقف الذي ينتصر فيه للّه، ويجاهد في سبيله، ويعمل على مرضاته، ويطلب المثوبة من جزيل عطاياه؟ إن الذي يذكر اللّه في هذا الموطن، ذكرا ينبعث من قلبه، ويتحرك من وجدانه- يستخفّ بالموت، ويلذّ له طعمه، ويجد أن حياته التي يقدمها للّه ليست شيئا إلى جانب الحياة الأخرى التي هو صائر إليها، وواجد ما قدّم لها.. وهذا هو الذي أمسك بالمجاهدين في سبيل اللّه على حياض الموت، فكتبوا بدمائهم تلك الوثائق الخالدة على الزمن، في التضحية والفداء.
هذا عن المجاهد مع خاصة نفسه.
ولكن المسلم لا يقاتل وحده، وإنما هو واحد في جماعة المجاهدين الذين يقاتل معهم، ويستند إليهم، ويستندون إليه.
ومن هنا كان من تمام البناء لتلك القوة التي يلقى بها المسلمون عدوّهم أن يكونوا صفّا واحدا، تمسك به مشاعر واحدة، فلا يتوزعهم الخلاف، ولا يمزق وحدة مشاعرهم النزاع، فذلك أمر إن وقع في جماعة أذهب ريحها، وحلّ عزيمتها، وأفسد تدبيرها، ومكنّ للعدو منها، مهما كانت القوة التي عليها أفرادها، والبلاء الذي يعطيه كل فرد منها في ميدان المعركة.
ولهذا جاء قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} جاء ليشدّ تلك الجماعة بعضها إلى بعض، بعد أن شدّ كلّ فرد فيها إلى موطن العزم والصبر، من نفسه.
ثم إنه لكى يقوم للمسلمين شاهد حسّىّ، يشهد لهم بمفعول هذه الوصاة الكريمة التي وصاهم اللّه بها، أفرادا وجماعة- فقد أراهم اللّه ما حلّ بالمشركين من بلاء، وما أصيبوا به من خذلان، وأن ذلك كان لما وقع بينهم من تنازع في الرأى واختلاف في الحساب والتقدير.
وقد صحب المشركين هذا التنازع وذلك الخلاف منذ خرجوا من مكة إلى أن التقوا بالمسلمين في بدر، فكانوا شيعا وأحزابا، لكل شيعة رأيها في الموقف، وتقديرها له، ولكل حزب حسابه وتقديره.. فكثر فيهم القائلون، بألّا حاجة لهم في القتال بعد أن سلمت العير، ومن قائل: لا بد من القتال.. ثأرا لكرامة قريش وهيبتها، كما يروى عن أبى جهل حين تنادى بعض المشركين بالرجوع عن الحرب وقد سلمت لهم العير، فقال: «واللّه لا نرجع حتى نرد بدرا فنقيم ثلاثا، فننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبدا!!».
ومن بين هذين الرأيين طارت شرارات الشقاق والخصام، وتناثرت كلمات التلاحي والتنابز، فتحركت في الصدور عداوات قديمة، وانبعثت من مرقدها فتن كانت نائمة.. وهكذا دخل القوم المعركة، وهم على تلك الحال، من تفرق الكلمة، وتمزق الوحدة، في الرأى والمشاعر.. وفى هذا يقول اللّه سبحانه وتعالى محذّرا للمسلمين من أن يكون منهم مثل هذا الموقف، في لقاء يكون بينهم وبين عدوهم.
يقول اللّه سبحانه: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.
فما خرج هؤلاء القوم دفاعا من حق، أو انتصارا لمبدأ، وإنما الذي أخرجهم هو البطر، أي الكبر، والكفر بنعمة اللّه، ثم ما يحدّث به الناس عنهم من أنهم أولو قوة وأولو بأس شديد، حين يرى الناس منهم ما جمعوا من مقاتلين، وما حملوا من سلاح وعتاد، ثم ما يقع لهم من هذا التدبير الذي دبروه، وهو الوقوف في وجه تلك الدعوة التي كانت شجّى في حلوقهم، وقذى في أعينهم! هذا ما أخرج القوم للقتال، وهذا ما خرجوا له.. ومن أجل هذا كان الخلاف بينهم، والتفرق في وحدتهم، والتمزق في مشاعرهم.. كلّ يأخذ الموقف الذي يشبع غروره وكبره، ويشهد الناس منه منزلته في قومه، وكلمته المسموعة في رهطه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ} فهذا هو الشعور الذي غلب على رؤساء القوم وأصحاب الكلمة فيهم.. أما عامتهم فكانوا تبعا لأهواء سادتهم، لا يقوم في كيان أحدهم شعور بمبدأ يقاتل عليه، وينتصر له.
أما قوله تعالى: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فذلك هو الجرم الذي اشترك فيه القوم جميعا، رؤساء ومرءوسين.. فكانوا جميعا جيشا مقاتلا للدعوة الإسلامية، وحصرها في أضيق الحدود.. أما البطر، ومراءاة الناس فكان لونا اصطبغ به بعضهم دون بعض، وغاية عمل لها أناس دون آخرين.
ولهذا اختلف النظم، لأن البطر والرياء شأنهم دائما فعبّر عنهما القرآن بالمصدر، الذي يفيد الثبوت والاستمرار، وأما الصدّ عن سبيل اللّه، فهو أمر جدّ عليهم بعد ظهور النبىّ فعبّر عنه بالفعل، الذي يفيد الحدوث والتجدد: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.
وقوله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ}.
الآية معطوفة على قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ} أي لا تكونوا كهؤلاء القوم الذين خرجوا على تلك الصفة، ولهذا الوجه، ولا تكونوا كهؤلاء على تلك الحال التي خرجوا فيها وقد زين لهم الشيطان أعمالهم.. فهؤلاء إنما خرجوا متّبعين أهواءهم، منقادين للشيطان الذي دعاهم، فاستجابوا له، وأعطوه زمامهم، بعد أن ملأ صدورهم أملا كاذبا، بأنهم قوة لا تغلب، بما هم عليه من عدد وعدة! فكيف إذا كان هو جارا لهم، وسندا وظهيرا في ميدان القتال معهم؟
{فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ} أي التقت الفئتان، ورأى بعضهم بعضا، والفئتان هما: المسلمون، والمشركون.. {نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ} أي رجع الشيطان إلى الوراء، يمشى القهقرى، وهو ينظر إليهم كما ينظر الغريم إلى غريمه وقد أوقعه في حفرة، وتركه لمصيره الذي ينتظره.
{وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ} إنها أحجار يقذف بها الشيطان في وجه القوم بعد أن ألقى بهم في هذه الحفرة.
إنه برىء مما حلّ بهم، أو سيحلّ من بلاء، يراه قبل أن يروه.. فلقد رأى الملائكة تأخذ مكانها في ميدان المعركة مع المسلمين، وإن ذلك ليعنى عنده أن القوم قد أصبحوا في الهالكين..!
وهكذا يتبرأ الشيطان منهم، كما يتبرأ من فعلته التي فعلها بهم.. إنه يخاف اللّه، ويخاف ما يحلّ به من عقاب اللّه، وإنه لعقاب شديد! والسؤال هنا:
كيف يعلن الشيطان أنه يخاف اللّه، ويخشى عقابه الشديد، وهو قائم على عصيان اللّه ومحادّته، بفتنة الناس، وإغوائهم بالضّلال، وصدهم عن سبيل اللّه؟ أهذا يكون ممن يعترف باللّه، ويخشى عقابه؟
والجواب: أن الشيطان معترف بوجود اللّه، مؤمن بسلطانه وسطوته، ولكنه مبتلى بعصيان اللّه في بنى آدم وإغوائهم، وإفساد ما بينهم وبين اللّه.
هكذا كان قضاء اللّه، فيما بينه وبين آدم، وذرية آدم.
لقد عصى اللّه إذ أمره بالسجود لآدم.
فكان أن لعنه اللّه، وطرده من مواقع رحمته، ومواطن رضوانه.
ومن هنا بدأ إبليس ينتقم لنفسه من آدم وذريته، إذ كان بسببه، هذا الذي أنزله اللّه به من عقاب.
وقد طلب إبليس من اللّه أن ينظره إلى يوم يبعثون، ليفسد هذا الإنسان الذي فضّله اللّه عليه، وطرد إبليس من رحمته بسببه.
وكان هذا من إبليس تحدّيا للّه، وإمعانا في الضلال: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً}.
وتزيين الشيطان للمشركين، وقوله لهم: {لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ} هو مما وسوس لهم به في صدورهم من ضلال، وما ألقى إلى سفهائهم من غرور، حتى لقد تمثلت تلك الوسوسة خواطر تتحرك في مشاعر القوم، وحتى لقد تخلّقت هذه الخواطر فكانت قولا، يجرى على ألسنة القوم، ويتنادون به.. وأنهم لن يغلبوا.
فموقف الشيطان وأعوانه في صفوف المشركين، هو مقابل لموقف الملائكة في صفوف المؤمنين.. ولكن شتان بين موقف وموقف.. فالشيطان يغرى بالباطل، ويمدّ بالضلال، ويعين بالأكاذيب.. أما الملائكة، فقد طلعت على المسلمين بريح القوة، وهبّت بأنسام النصر، فملأت قلوب المسلمين أمنا وطمأنينة، فثبتت من أقدامهم، وقوت من عزائمهم، وأطمعتهم في عدوّهم.
فكان لهم الظفر بعدوّهم.
وفى هذا يقول اللّه تعالى: {قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [77: 85 ص].
وهكذا يقضى اللّه سبحانه وتعالى بين إبليس وبين أبناء آدم. يغريه بهم، ويسلطه عليهم، ليخزيه آخر الأمر، وليريه من أبناء آدم ما يزيده حسرة وحزنا، فيما يرى مما للّه في أبناء آدم من أصفياء وأولياء، أنزلهم منازل رضوانه، وفتح لهم أبواب جنّاته، يلقون فيها ما أعدّ لهم من نعيم مقيم.
وفى هذا يقول اللّه تعالى: {إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ} [42: الحجر].
فإذا كان لإبليس أولياء من بنى آدم، يؤدّى فيهم رسالته الضالّة المفسدة، فإن في أبناء آدم من يقف له بالمرصاد، ويلبسه لباس الذلة والخزي! وعلى هذا، فإن الشيطان إذ يغوى الغاوين من أبناء آدم، وإذ يدفع بهم إلى مواطن الضلال- إنما يؤدى رسالته التي تخيّرها لنفسه فيهم، وهو يعلم أنه على عصيان للّه، فيما يأتيه مع أبناء آدم من إغواء وإضلال.. ولكنه- مع هذا- لا يملك من نفسه أن يردّها عن هذا الاتجاه الذي اتخذته، بحكم سابق، وقضاء نافذ.. فهو- والحال كذلك- يؤدّى رسالة الشرّ في أبناء آدم، كما يؤدّى الأنبياء رسالة الخير فيهم، وللشيطان أولياؤه وأتباعه، كما للأنبياء أولياؤهم وأتباعهم.
ومن جهة أخرى، فإن الشيطان- لحكمة أرادها اللّه- مغطّى على بصره، لا يرى الشرّ الذي يزرعه في أبناء آدم، حتى ينبت، ويزهر، ويثمر.
وهنا يدرك أنه اقترف الإثم، ووقع في المعصية.. وهنا أيضا يري عقاب اللّه الراصد له، جزاء ما اقترف من آثام.. وفى هذا بلاء عظيم، وعذاب أليم، وتلك هى لعنة اللّه التي حلّت بإبليس.. يعمى عن الشرّ فيقع فيه، حتى إذا وقع فيه أبصره وتحقق منه، وجنى الحسرة والندامة مما غرس بيديه!


{إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54)}.
التفسير:
الظرف {إذ} متعلق بالفعل {خرجوا} في قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ}.
فالظرف هنا حال من تلك الأحوال التي تلبّس بها خروج المشركين لقتال المسلمين في بدر.
ففى الحال التي خرج فيها المشركون بطرا ورثاء الناس.. كان هناك المنافقون والذين في قلوبهم مرض يستصغرون شأن المسلمين، ويسلقونهم بألسنة حداد، ويرمونهم بالغرور.. إذ كيف- وهم في هذا العدد القليل-
يتصدّون لقريش، ويتعرضون لعيرها، ثم لا يقفون عند هذا، بل يخفّون للقائها في ميدان القتال! وقد ردّ اللّه سبحانه وتعالى على هؤلاء المنافقين والذين في قلوبهم مرض، بما يكبتهم ويخرس ألسنتهم، ويملأ قلوبهم حسرة وكمدا.. فقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فهؤلاء المسلمون- وإن كانوا قلة- قد كان لهم من التوكل على اللّه، والثقة فيه، ما يجعل من قلتهم كثرة، ومن ضعفهم قوة. فهم أعزّاء أقوياء، بعزّة العزيز الحكيم، وقوته.
والمنافقون والذين في قلوبهم مرض: هم من كان في المدينة من منافقى اليهود، وغيرهم.
وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ}.
إشارة إلى ما حلّ بالمشركين الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورثاء الناس، من بلاء ونكال في يوم بدر الذي خرجوا له، وهم على تلك الحال التي كانت تستولى عليهم من الزّهو والخيلاء.. فهاهم أولاء يتلقّون الصفعات على وجوههم، والضربات على أدبارهم، كما يفعل بعيدهم وإمائهم..!
فأين العزّة والمنعة؟ وأين السطوة والجاه؟ لقد تعرّوا من هذا كلّه، ولبسوا ثوب الخزي والمهانة، ونزلوا إلى أسوأ مما كان عليه الأرقاء.. من عبيد وإماء! وإذا كانت تلك الأيدى التي تناولتهم بالصفع على وجوههم، وتلك الأرجل التي أخذتهم بالرّكل على أدبارهم، أيديا خفيّة لا ترى، لأنها يد القوى السماوية التي سلطها اللّه عليهم يومئذ- فإنّ هناك أيديا شوّهت هذه الوجوه بضربات السيوف، وركلت هذه الأدبار بأزجّة الرّماح، وهى أيد رآها الناس رأى العين، وشهدوا آثارها وأفعالها في هؤلاء السادة المتكبرين.. إنها أيدى أولئك المسلمين الذين استرهبهم المشركون بزهوهم وخيلائهم، وغمزهم المنافقون والذين في قلوبهم مرض بقوارص الكلم، وسيىء القول.
وقوله تعالى: {وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ} هو بيان للمصير الذي صار إليه أولئك المشركون الذين أذلّ اللّه كبرياءهم في هذا اليوم، يوم بدر، وهو مصير مشئوم، يلقى بهم في سواء الجحيم، حطبا لجهنم، ووقودا لسعيرها.
وذلك الذي حلّ بالمشركين من هوان في الدنيا، وعذاب في الآخرة، هو جزاء لما كان منهم، وما قدّمت أيديهم من سوء.. {ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}! وقد اختلف في المراد بالخطاب في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرى} أهو خطاب خاص للنبى؟ أم هو لكل من شهد المعركة؟ أم هو خطاب عام غير مقيد بشخص أو بوقت، بل هو لكل من يستمع إلى هذا الخطاب؟
والرأى، أنه خطاب عام لكل من استمع أو يستمع إليه.
وفى قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ما يسأل عنه؟
لما ذا جاء التعبير بنفي الظلم عن اللّه بصيغة المبالغة {ظلّام}؟ وهل إذا انتفت المبالغة في الظلم أينتفى معها الظلم نفسه؟
والجواب- واللّه أعلم- أن صيغة المبالغة هنا إنما تكشف عن وجه البلاء الذي وقع بالمشركين، وأنه بلاء عظيم، وعذاب أعظم، وأن الذي ينظر إليه يجد ألا جريمة توازى هذا العقاب وتتوازن معه، في شدّته، وشناعته، حتى ليخيّل للناظر أن القوم قد ظلموا، وأنه قد بولغ في ظلمهم إلى أبعد حد، فجاء قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ليدفع هذا الوهم الذي يقع في نفس من يرى هذا البلاء الذي حلّ بهؤلاء القوم الضّالين، وهو بلاء فوق بلاء، فوق بلاء!! قوله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ}.
الدّأب: الحال والشأن.
أي أن ما فعله اللّه بهؤلاء المشركين، الذين علوا في الأرض، وبغوا، قد فعله- سبحانه- بأمثالهم ممن علوا وبغوا.. ومن هؤلاء آل فرعون، ومن كان قبلهم من الطّغاة والظالمين- قد أخذهم اللّه بذنوبهم، ولم يعصمهم من عقاب اللّه، ما كانوا عليه من جبروت وقوة، فإن قوة اللّه لا تدفعها قوة، وبأسه لا يردّه بأس: {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ}.
هذا، ويرى بعض المفسرين أن قوله تعالى: {كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ} هو عائد إلى المشركين، لا إلى آل فرعون.. أي أن شأن المشركين كشأن آل فرعون.
قد كفروا مثل كفرهم.. والرأى عندنا أن هذا الوصف عائد على آل فرعون، حيث يبرز من هذا الوصف حال المشبّه به- وهم آل فرعون- على صورة كاملة، يستغنى بها عن وصف المشركين بأية صفة بعد أن ألحقوا بآل فرعون في كل مالهم من صفات، كان الكفر أظهر ألوانها.
والسؤال هنا: لم كان حكم اللّه هذا واقعا على آل فرعون ومن كان قبلهم، مع أنه حكم واقع على كل جبار مفسد متكبر، سواء أكان قبل آل فرعون أو بعدهم؟
والجواب- واللّه أعلم- أنّ من كان قبل آل فرعون، قد وقعوا تحت هذا الحكم فعلا.. أما من بعدهم، فمنهم من أخذه اللّه بهذا العقاب، ومنهم من ينتظر دوره مع حركة الحياة، وسير الزّمن.
وهذا يعنى أن من بعد آل فرعون من الظّلمة والآثمين، وإن أخذ بعضهم بهذا العقاب، فإن آخرين- ومنهم المشركون والمنافقون الذين عاصروا النبوة- ينتظرون وقوع هذا الحكم بهم، وأن الباب قد فتح لهم ليدخلوا فيما دخل فيه الظالمون قبلهم.. وفى هذا تهديد، ووعيد لمن كان على هذا الطريق، أو سيكون عليه، لينجو بنفسه، ويأخذ سبيلا غير هذه السبيل التي هو عليها.
وقوله سبحانه: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
هو دعوة عامة للناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، طائعهم وعاصيهم أن يوجهوا وجوههم إلى اللّه، وأن يستقيموا على طريق الحقّ والخير، فإنهم إن فعلوا هذا أمنوا تلك النوازل التي تنزل بأعداء اللّه، وتدمّر ما بنوا، وتخرّب ما عمروا.. فاللّه سبحانه لا يسلب عباده نعمة من نعمه التي فضل بها عليهم، إلا إذا أحدثوا من الأمور ما يعرضهم لانتقام اللّه منهم، بسلب ما منحهم من فضله:
{ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ} وتغيير ما بأنفسهم، هو تحولهم من حال سيئة إلى حال أكثر سوءا.. {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يسمع ما تنطق به الألسنة، من خير أو شر، ويعلم ما تنطوى عليه القلوب، من إيمان أو كفر.
وهذه الآية إنما تعنى أولا وبالذات أهل الزيغ والضلال، وتحذّرهم من أن يقيموا على ما هم عليه من زيغ وضلال، فإن ذلك مؤذن بأن يبدّل اللّه نعمهم نقما، وأن بغير حالهم من سوء إلى أسوأ.
والسؤال هنا هو:
كيف تقع غير اللّه بالظالمين والطغاة، وهم على ما عهدتهم الحياة من ظلم وطغيان.. لم يغيروا ما بأنفسهم من بغى، وظلم وعدوان؟ إن ما ينزل بهم من نقم اللّه، هو فيما يبدو لم يكن عن تغيير لما في أنفسهم من خير إلى شر، ومن إيمان إلى كفر.. فهم أبدا على الشر، وهم أبدا مع الكفر؟ فكيف هذا؟
والجواب: أن الظالمين، والطغاة، والمنحرفين عن طريق الحق، والخير، لا يظلّون على حال واحدة مما هم فيه، بل إنّهم مع الشرّ الذي صحبوه، لا يزدادون به مع الأيام إلّا شرّا.. ذلك أن الشرّ ينمو في كيان صاحبه، كما تنمو الحبّة في الطين.. إلا أن يقتلع نبتة الشر من جذورها، ويغرس في نفسه نبتة الخير والإحسان.
وعلى هذا، فإن أهل السوء والضلال، إذا أمسكوا بماهم عليه من سوء وضلال ازدادوا مع الأيام سوءا وضلالا، وكانوا في يومهم شرا من أمسهم، وهم في غدهم أكثر شرّا من يومهم..!
وإذن، فالمتوقّع- غالبا- من أهل البغي والضلال أن يقع منهم تغيير لما في نفوسهم، وهو تغيير إلى أسوأ، إذا هم لم يراجعوا أنفسهم، ويرجعوا عماهم فيه، من بغى وضلال.
هذا، وليس تغيير ما في النفوس يكون دائما من خير إلى شر، أو من شر إلى ما هو شرّ منه.. بل ما أكثر ما يكون التغيير على عكس هذا، وهو التغيير من شر إلى خير، ومن سيىء إلى حسن.. فكلا هذين التغييرين واقع في الحياة، حيث يصلح الفاسد، ويفسد الصالح.. وهكذا تتغير مواقف الناس وتتبدل أحوالهم.
والمطلوب من الإنسان أن ينشد التغيير الذي يبعده من الظلام ويدنيه من النور.. ففى ذلك رشده وصلاحه، وسعادته.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ} [11: الرعد] فهذا قضاء اللّه في عباده.. لا يغير ما بهم، ولا يخرجهم عما هم فيه من نعمة وعافية، أو من شدة وبلاء، حتى يحدثوا هم تغييرا في أنفسهم، وتحوّلا في منازعهم وسلوكهم، وهنا يغير اللّه أحوالهم حسب ما كان منهم من تغيير.. من اتجاه إلى الحق والخير، أو انحدار إلى الشر والضلال.
قوله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ}.
الجار والمجرور {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} متعلق بقوله تعالى: {حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ} أي أن اللّه سبحانه وتعالى لا يغيّر ما بقوم، ولا يحوّلهم عماهم فيه من عافية ونعمة، حتى يحدثوا هم تغييرا في أنفسهم، من سيىء إلى أسوأ، ومن شر إلى ما هو أكثر شرا منه، كما فعل آل فرعون، الذين زادهم الهدى الذي جاءهم به موسى، ضلالا وكفرا وعتوّا، فكان هذا التغيير الذي حدث في أنفسهم مؤذنا بما سيحلّ بهم من سوء وبلاء، إذ غيّروا ما بأنفسهم، حين ازدادوا ضلالا إلى ضلال فغير اللّه ما هم فيه من نعمة وعافية.
وفى قوله تعالى: {كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ} المعدول به عن القول الذي يقتضيه النظم: {كذبوا بآياتنا} في هذا إشارة إلى مدى ما كان عليه القوم من عتو وعناد، مع ما للّه عليهم من ألطاف ونعم، إذ ساق إليهم آياته، تحمل الهدى والخير، وقد أضافهم سبحانه وتعالى إليه هكذا: {رَبِّهِمْ} ليذكروا ربوبية الخالق لهم، الذي أخرجهم من عالم العدم إلى عالم الحياة، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، وأخرج لهم من الأرض أقواتهم، وجعل لهم فيها فجاجا سبلا، وأنهارا جارية، وعيونا سائلة.. ومع هذا وكثير غيره، فإن القوم لم تنفعهم هذه الذكرى، بل ازدادوا بها عتوا وضلالا.
وفى قوله تعالى: {فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ}.
إشارة إلى ما حلّ بهؤلاء الظالمين من آل فرعون، ومن كان على شاكلتهم في البغي والعدوان.. لقد أهلكهم اللّه جميعا بذنوبهم، وجعل لكلّ جماعة من هؤلاء الظالمين مهلكهم الذي يهلكون به، كما يقول سبحانه: {فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [40: العنكبوت].
وقد كان مما أخذ اللّه به فرعون وآله، هو الغرق، وكان ذلك جزاء وفاقا لكفرهم وعنادهم، وتغيير ما بأنفسهم.
وانظر.. لقد كان الذي فيه فرعون وقومه من نعمة وقوة وسلطان، هو من فيض النيل ونفحاته، إذ كان {النيل} هو مصدر الحياة لهذا الوادي ومن فيه، وفى هذا يقول فرعون معتزا بما بين يديه من قوّة: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي؟ أَفَلا تُبْصِرُونَ؟}.
وقد كفر فرعون بهذه النعم، وجعل منها سياط عذاب يأخذ بها الناس، ويوردهم موارد الذلة والهوان، فكان أن قتله اللّه وآله، بتلك النعمة، وجعلها تجرى في حلقه ملحا أجاجا، بعد أن كان يجرى ماء النيل في هذا الحلق عذبا زلالا.. وهكذا يهلك بالماء، وقد كان يحيا على الماء وبالماء! وفى هذا الذي كان من فرعون وملائه نذير لهؤلاء المشركين، الذين كفروا بآيات ربهم، وكذبوا رسوله الذي حمل إليهم الهدى والنور.. وكما أخذ آل فرعون بعذاب اللّه، فإن هؤلاء المشركين، هم في مواجهة عذاب اللّه، وفى معرض النقمة والبلاء.
غير أن آل فرعون قد فوّتوا على أنفسهم فرصة النجاة، فلم يرجعوا إلى اللّه، ولم ينتهوا عن غيّهم.. أما هؤلاء المشركون، فما زالت الفرصة سانحة لهم، وما زال طريق النجاة مفتوحا بين أيديهم.. فماذا هم فاعلون؟


{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60)}.
التفسير:
قوله تعالى {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}.
هو التعقيب المناسب لما أخذ به الظالمون من بلاء ونكال.
إنّ هذا الحكم هو الذي تشيّعهم به الحياة، وهم يعالجون سكرات الموت، إذ كانوا في حرب مع اللّه، ومع أولياء اللّه.. فكيف يرحمهم قلب، أو تدمع عليهم عين؟
وفى قوله تعالى: {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} بعد قوله سبحانه: {الَّذِينَ كَفَرُوا} في هذا ما يسأل عنه: إذ كيف يكون نفى الإيمان عنهم مسبّبا لكفرهم، مع أن عدم الإيمان هو عين الكفر.. والسبب لا يكون عين المسبّب، وإن كان نتيجة لازمة من لوازمه؟.
والجواب- واللّه أعلم-: أن كفر هؤلاء الكافرين الذين وصفوا بأنّهم شرّ الدّوابّ عند اللّه.. إنما يتلبس بنفوس خاصّة، من جماعة من الكافرين، لا بكلّ الكافرين.. وتلك الجماعة هى التي من شأنها ألا تخلع هذا الكفر أبدا، بل تشدّ قلوبها عليه، حتى تموت به! ومن هنا استحقت تلك الجماعة هذا الوصف الذي وصفها اللّه سبحانه وتعالى به، وهى أنها شرّ ما دبّ على الأرض من كائنات، وذلك لأنها لا تعقل كما يعقل الناس، ولا تسمع كما يسمع الناس، ولا تبصر كما يبصر الناس.. ثم هى ليست من دوابّ الحيوانات، تعيش، في حدود الطبيعة المتاحة لتلك الدواب، وإنما هى خلق آخر.
مزيج من الإنسان والحيوان.. وذلك مسخ للإنسان، وللحيوان معا، وبهذا المسخ يكون هؤلاء الآدميّون الحيوانيّون شرّ الدّواب، طبيعة وخلقا.
فقوله تعالى: {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} حكم قاطع، قاض على هذا الصنف من الكافرين بأنه لن يدخل الإيمان قلبه أبدا.. وهذا الصنف هو الذي ذكره اللّه سبحانه وتعالى في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ.. وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} [6- 7:
البقرة].
وقوله تعالى: {الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ}.
هو بدل من الذين كفروا، وهذا البدل يكشف عن صفة من صفات هؤلاء الكافرين. وهى أنهم لا يحفظون عهدا، ولا يرعون ذمة، إذ لا وازع عندهم، من دين أو خلق.
وفى قوله تعالى: {عاهَدْتَ مِنْهُمْ} إشارة إلى أن النبىّ صلى اللّه عليه وسلم لم يدعهم إلى أن يعاهدهم بما عاهدوه عليه، بل إنهم هم الذين جاءوا إلى النبي يعرضون عليه عهدهم بالأمان والموادعة بينهم وبينه، وأن النبىّ صلوات اللّه وسلامه عليه أجابهم إلى ذلك، وقبل منهم العهد الذي أعطوه.
وفى نقضهم لهذا العهد الذي جاءوا هم به من تلقاء أنفسهم، وأعطوه عن رضى واختيار- في نقضهم لهذا العهد، الذي هو في الواقع عهدهم، خيانة لأنفسهم، فوق أنه خيانة للعهد من حيث هو عهد، يجب الوفاء به على أي حال.
وفى قوله تعالى: {وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} بعد وصفهم بقوله سبحانه: {ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ} في هذا إشارة إلى أنّهم متحللون من كل قيد يمسك بهم على خلق فاضل، ويقيمهم على مبدأ كريم.. إنهم لا يتقون أي محظور تحظره الشرائع السماوية، أو تجرّمه القوانين الوضيعة والمواضعات الخلقية.
والمراد بهؤلاء الذين ينقضون العهد الذي عاهدوا عليه الرسول، هم جماعات اليهود الذين كانوا بالمدينة، يثيرون الفتن، ويذيعون المنكر، ويحيكون الدسائس، وينتهزون الفرصة المواتية لينالوا من النبي والمؤمنين ما يريدون من شر.
ثم إن هذا الحكم هو حكم عام، يقيمه المسلمون دائما فيما بينهم وبين الكافرين.
وقوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}.
هو الجزاء الذي أمر اللّه سبحانه وتعالى نبيّه الكريم أن يلقى به هؤلاء الكافرين، الذين لا يؤمنون باللّه أبدا، والذين ينقضون عهدهم مع النبىّ، ويلقونه في الجبهة المحاربة له كلما سنحت الفرصة لهم، سواء أكان ذلك بأشخاصهم، أم بأموالهم وأسلحتهم، يمدّون بها أعداء المسلمين.
فهؤلاء الذين يقفون من النبىّ ودعوته، هذا الموقف اللئيم المخادع، لا عهد لهم، ولا ذمة لهم عند النبىّ والمسلمين، ما داموا قد غدروا ونكثوا.. فليس لهم عند النبىّ والمسلمين إذا ظفروا بهم في حرب، أو أمكنتهم أيديهم منهم في أي موقف- ليس لهم إلا الضربة القاصمة القاضية، وإلا البلاء ينصب عليهم انصبابا، ينالهم في أنفسهم، وأموالهم وأهليهم، وذلك ليكونوا عبرة لغيرهم، ومثلا سائرا في الناس، لكل من ينقض العهد مع النبىّ والمسلمين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}.
والتعبير بالظفر بهم، ووقوعهم ليد النبي بقوله تعالى {تَثْقَفَنَّهُمْ} إشارة إلى أن الحرب ليست كلّها انتقاما، واستئصالا للمغلوب، وإنما هى- في صميمها- إصلاح له، وحيدة به عن طريق الضلال والغواية الذي يركبه، إلى طريق الحق والهدى، المدعوّ إليه.. إذ كثيرا ما تنتهى الحرب بين المسلمين وأعدائهم، وإذا أعداد وفيرة من هؤلاء الأعداء، قد تحوّلوا إلى أولياء، ودخلوا في دين اللّه، وكانوا من عباده المؤمنين.
وهذا هو السرّ في التعبير بكلمة {تثقفنّهم} بدلا من كلمة تظفر بهم.
إذ الثّقاف هو من يتولّي إصلاح الرماح، وتقويمها، بما يقتطع من أجزائها، وأطرافها، وبما يسوّى من نتوئها.
فالحرب في الإسلام أشبه بالثّقاف للرماح، غايتها الإصلاح، والتقويم، ولكن الحرب هنا مع هذا الصنف من الناس، الذين يغدرون بالنبيّ، وينصبون المكايد له بالخديعة والختل، إذ يجيئون إليه موادعين مسالمين، ثم ينقلبون ذئابا محاربين- هؤلاء، لا يرجى لهم إصلاح، ولا يتوقع منهم خير {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أبدا.. وإذن فليس لهم إلا الضربة القاضية، التي لا تبقى منهم على دار ولا ديّار، حتى يكونوا في ذلك عبرة لغيرهم.. {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} أي فرّق بهذا الذي تأخذهم به من بلاء ونكال، كلّ مجتمع للضلال وتبييت السوء للمسلمين، ممن ينتظرون ما وراء كيد هؤلاء الكافرين بالمؤمنين.
فكلّ من تحدثه نفسه بخيانة عهد المسلمين من بعد تلك الضربة التي نزلت بهؤلاء الخائنين- سيجد أمام ناظرية مثلا حيّا لما ينتظره من بلاء ونكال في هذا الذي أخذ به هؤلاء القوم، وبهذا تنحلّ عزائم الذين يدبرون الشرّ للمسلمين، ويتشتت جمعهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}.
إذ الضمير في كلّ من {لعلهم} و{يذكرون} راجع إلى هؤلاء الذين يأتون بعد هؤلاء الذي نكّل بهم النبىّ وضربهم الضربة القاضية.. ففى الضربة التي حلت بهؤلاء موعظة وذكرى لهؤلاء الذين لم يظهروا بعد على طريق الغدر والخيانة! قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ} هذه الآية تكشف عن وجه مشرق وضيء من وجوه الإسلام- ووجوه الإسلام كلها مشرقة مضيئة- في رعاية العهد وحفظه والوفاء به.
لقد أشارت الآية السابقة إلى ما يدبر أعداء الإسلام للمسلمين من كيد، ومكر، ونكث بالعهد، ونفاق فيما عاهدوهم عليه.. وأنهم ينقضون العهد الذي أعطوه من أنفسهم للنبىّ.. في كل مرة يجيئون إليه فيها معاهدين.
وحتى لا يعامل المسلمون أعداءهم بمثل عملهم هذا، وحتى لا يدخل على نفوسهم شيء من هذا الداء الخبيث الذي استولى على نفوس أعدائهم، من نقض العهد، وخيانة الكلمة- حتى لا يكون شيء من هذا في مجتمع المسلمين، جاءهم أمر اللّه، فيما أمر به نبيه، ورسم له فيه أسلوب العمل، الذي يعامل به هؤلاء الناكثين للعهد.. فقال سبحانه: {وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ}.
أي إن استشعرت خيانة من قوم بينك وبينهم عهد، وتوقعت أن ينكثوا هذا العهد على غرّة، دون أن يؤذنوك بنكثه، والتحلل منه، فلا تفعل فعلهم، ولا تنقض العهد منهم في خفاء بينك وبين نفسك، كما يفعلون، بل أنذرهم بذلك، وأعلمهم إياه، {على سواء} أي على وضوح كامل، بصريح اللفظ، دون التلويح به.. وذلك ليكونوا على بيّنة من أمرهم، فلا يدخل في حسابهم بعد هذا، العهد الذي بينك وبينهم، وبهذا يسقط العهد من هذا الحساب، ويعدّون أنفسهم للحرب، كما أعدّ النبي والمسلمون أنفسهم لها.
قوله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا.. إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ} هو تطمين لقلوب المسلمين، ودفع لوساوس الخوف، التي تطرقهم وهم يعطون من أنفسهم الوفاء لعدوهم بالعهد الذي بينهم وبينه، على حين أنه يغدر بهم، ويباغتهم بهذا الغدر، فكيف يحاربهم العدو بسلاح ثم يحرم عليهم محاربته بهذا السلاح؟ فليطمئن المسلمون، وليعلموا أن هؤلاء الذين خانوا العهد، لم يسبقوا بتلك الخيانة إلى أخذ فرصة في المسلمين، لأنهم- وقد فعلوا ما فعلوا من خيانة- قد تعرضوا لبغض اللّه وغضبه. {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ} وحسبهم هذا خسرانا وبلاء!
قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}.
لقد سلط اللّه النبىّ والمسلمين على هذا العدوّ المتربّص بهم، الكائد لهم، وأمرهم بأن يضربوهم الضربة القاضية التي تأنى عليهم، وتكون مثلا وعبرة لغيرهم.
ولكن.. ما الذي يمكّن للنبى والمسلمين من أن يبسطوا يدهم على عدوّهم وينزلوه على حكمهم فيه؟ إنه لا شيء إلا القوة التي يكون عليها المسلمون في الرجال والعتاد.
ومن هنا أتبع القرآن الكريم الأمر بتأديب العدوّ وبسط اليد عليه- أتبع ذلك بالأمر باتخاذ الوسائل المحققة لهذا الأمر، وذلك بالأخذ بكل أسباب القوة، التي ترجح بها كفة المسلمين في ميادين القتال، ومصادمة العدوّ.
وفى قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}، أمر باتخاذ القوة، والعمل على بنائها، والتوسل إليها بوسائلها، ومن أهم تلك الوسائل الخيل.
إذ كانت في هذا الوقت أقوى مظهر من مظاهر القوة والفروسية.. فحيث كانت الخيل، وكان فرسانها، كانت القوة والمنعة.
وفى التعبير عن الخيل بقوله تعالى: {وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ} إشارة إلى الإكثار من الخيل، وإعدادها للحرب، وتدريبها على القتال، وحبسها على هذا المجال، فلا تتخذ لغرض آخر، بل تكون دائما مرصودة للقاء العدوّ، مهيأة للاشتباك معه في أية لحظة.. إنها مرابطة كما يرابط المجاهدون على الثغور لحماية المسلمين، وسد الثغور التي ينفذ منها العدو إليهم.!
وفى قوله تعالى: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} الضمير في {به} يعود إلى رباط الخيل، وأنه مصدر رهبة للعدوّ. إذا كان هذا الرباط من الكثرة والإعداد على صورة يهابها العدوّ ويعمل حسابها.. وهذا يعنى استعراض تلك القوة المعدّة من الخيل وفرسان الخيل، وإظهارها بحيث يراها العدوّ، ويرى فيها ما يرهبه، ويقتل في نفسه كل داعية من دواعى الطمع في المسلمين، وفى لقائهم على ميدان القتال.. وهذا يعنى أيضا أن يكون هذا الرباط على صورة محقّقة لإلقاء الرعب والفزع في نفس العدوّ، وإلا كان ستر هذا الرباط وإخفائه أولى وأحكم من إظهاره.
وهذا يعنى كذلك أن الإعداد للحرب ليس لإشباع شهوة الحرب، وإنما هو لإرهاب العدوّ أولا، حتى ينزجر، ولا تحدّثه نفسه بالحرب حين يرى القوّة الراصدة له. ومن هنا يرى أن الإسلام دين سلام، يعدّ للحرب، حتى تجتمع له القوة الممكنة له من النصر والغلب، ولكنه لا يبدأ الحرب، ولا يسعى إليها، وإنما يجىء إليها مكرها، ويدخل فيها مدافعا، لا مهاجما!! وفى قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} إشارة وتنبيه للمسلمين إلى ألّا يكون حسابهم في إعداد القوة مقصورا على هذا العدوّ الظاهر لهم، ومقدورا بقدره، بل يجب أن يعملوا في تقديرهم حسابا لأعداء آخرين، لم يظهروا لهم، ولم يواجهوهم بعداوة أو قتال.
وهذا يعنى أن يبذل المسلمون كثيرا لإعداد هذه القوة التي يحاربون بها أعداءهم الذين يرونهم، والتي يرصدونها للعدوّ الخفىّ الذي لم يظهر لهم بعد.
ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك: {وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} جاء داعيا إلى البذل والإنفاق في سبيل اللّه، فإنّ اللّه سبحانه وتعالى سيؤتى المنفقين أجرهم، ويجزل لهم العطاء، فلا يضيع شيء مما بذلوا وأنفقوا، لأن في ضياعه ظلما لهم.. {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6